فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف، في قوله: {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض. ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول: هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه؟.
فالأول هو قول المعتزلة، والثاني قول أهل السنة.
فتقول المعتزلة: لو لم يقتله لعاش، وهذا سبب القود.
وقالت فرقة من أهل السنة، لو لم يقتله لمات حتف أنفه.
قال أبو المعالي: وهذا كله تخبط، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة، فمحال أن يقع غير ذلك، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه.
وقول الكفرة: {إن أنتم إلا بشر مثلنا} فيه استبعاد بعثة البشر، وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة أو من يقول من الفلاسفة: إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية، و: {سلطان مبين}، ولو كانت بعثتهم عندهم محالًا لما طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز، أي بعثتكم محال وإلا: {فأتونا بسلطان مبين}، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدًا، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
المعنى: صدقتم في قولكم، أي بشر مثلكم في الأشخاص والخلقة لكن تبايننا بفضل الله ومنه الذي يختص به من يشاء.
قال القاضي أبو محمد: ففارقوهم في المعنى بخلاف قوله تعالى: {كأنهم حمر} [المدثر: 50] فإن ذلك في المعنى لا في الهيئة.
وقوله: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان} هذه العبارة إذا قالها الإنسان عن نفسه أو قيلت له فيما يقع تحت مقدوره- فمعناها النهي والحظر، وإن كان ذلك فيما لا قدرة له عليه- فمعناها نفي ذلك الأمر جملة، وكذا هي آيتنا، وقال المهدوي لفظها لفظ الحظر ومعناها النفي.
واللام في قوله: {ليتوكل} لام الأمر. وقرأها الجمهور ساكنة وقرأها الحسن مكسورة، وتحريكها بالكسر هو أصلها. وتسكينها طلب التخفيف، ولكثرة استعمالها وللفرق بينها وبين لام كي التي ألزمت الحركة إجماعًا.
وقوله: {ما لنا ألا نتوكل} الآية، وقفتهم الرسل على جهة التوبيخ على تعليل في أن لا يتوكلوا على الله، وهو قد أنعم عليهم وهداهم طريق النجاة وفضلهم على خلقه، ثم أقسموا أن يقع منهم الصبر على الإذاية في ذات الله تعالى. و: {ما} في قوله: {ما آذيتمونا} مصدرية، وهي حرف عند سيبويه بانفرادها، إلا أنها اسم مع ما اتصل بها من المصدر، وقال بعض النحويين: {ما} المصدرية بانفرادها اسم. ويحتمل أن تكون: {ما}- في هذا الموضع- بمعنى الذي، فيكون في: {آذيتمونا} ضمير عائد، تقديره آذيتموناه، ولا يجوز أن تضمر به سبب إضمار حرف الجر، هذا مذهب سيبويه، والأخفش يجوز ذلك. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{قالت رسلهم أفي الله شك}
هذا استفهام إِنكار، والمعنى، لا شك في الله، أي: في توحيده: {يدعوكم} بالرسل والكتب: {ليغفرَ لكم من ذنوبكم} قال أبو عبيدة: {مِن} زائدة، كقوله: {فما منكم من أَحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47]، قال أبو ذؤيب:
جَزَيْتُكِ ضِعْفَ الحُبِّ لمَّا شَكَوتِهِ ** وما إِن جزاكِ الضِّعْفَ مِن أَحَدٍ قَبْلي

أي: أَحَدٌ.
وقوله: {ويؤخِّرَكم إِلى أَجَل مسمّى} وهو الموت، والمعنى: لا يعاجلكم بالعذاب.
{قالوا} للرسل: {إِن أنتم} أي: ما أنتم: {إِلا بَشَر مِثلنا} أي: ليس لكم علينا فضل، والسلطان: الحُجَّة.
قالت الرسل: {إِن نحن إِلا بَشَر مثلكم} فاعترفوا لهم بذلك،: {ولكنَّ الله يمنُّ على من يشاء} يعنون: بالنبوَّة والرسالة،: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إِلا بإذن الله} أي: ليس ذلك من قِبَل أنفسنا.
قوله تعالى: {وقد هدانا سُبُلَنَا} فيه قولان:
أحدهما: بيَّن لنا رشدنا.
والثاني: عرَّفنا طريق التوكل.
وإِنما قُصَّ هذا وأمثالُه على نبينا صلى الله عليه وسلم ليقتديَ بمن قبله في الصبر وليعلم ما جرى لهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ}
استفهام معناه الإنكار؛ أي لا شك في الله، أي في توحيده؛ قاله قَتَادة.
وقيل: في طاعته.
ويحتمل وجهًا ثالثًا: أفي قدرة الله شك؟ لا لأنهم متفقون عليها ومختلفون فيما عداها؛ يدلّ عليه قوله: {فَاطِرِ السماوات والأرض} خالقها ومخترعها ومنشئها وموجدها بعد العدم، لينبه على قدرته فلا تجوز العبادة إلا له.
{يَدْعُوكُمْ} أي إلى طاعته بالرسل والكتب.
{لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} قال أبو عبيد: {مِنْ} زائدة.
وقال سيبويه: هي للتبعيض؛ ويجوز أن يذكر البعض والمراد منه الجميع.
وقيل: {مِن} للبدل وليست بزائدة ولا مُبعِّضَة؛ أي لتكون المغفرة بدلًا من الذنوب.
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني الموت، فلا يعذبكم في الدنيا.
{قالوا إِنْ أَنتُمْ} أي ما أنتم.
{إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} في الهيئة والصورة؛ تأكلون مما نأكل، وتشربون مما نشرب، ولستم ملائكة.
{تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الأصنام والأوثان: {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} أي بحجة ظاهرة؛ وكان هذا مِحالًا منهم؛ فإن الرسل ما دعوا إلا ومعهم المعجزات.
قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}
أي في الصورة والهيئة كما قلتم.
{ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يتفضّل عليه بالنبوّة.
وقيل؛ بالتوفيق والحكمة والمعرفة والهداية.
وقال سهل بن عبد الله: بتلاوة القرآن وفهم ما فيه.
قلت: وهذا قول حسن؛ وقد خرّج الطبريّ من حديث ابن عمر قال قلت لأبي ذرّ: يا عمّ أوصني؛ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا ولله فيه صدقة يمنّ بها على من يشاء من عباده وما منّ الله تعالى على عباده بمثل أن يُلهمهم ذِكره».
{وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ} أي بحجة وآية.
{إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بمشيئته، وليس ذلك في قدرتنا؛ أي لا نستطيع أن نأتي بحجة كما تطلبون إلا بأمره وقدرته؛ فلفظه لفظ الخبر، ومعناه النفي، لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه.
{وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} تقدّم معناه.
قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} {ما} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{لَنَا} الخبر، وما بعدها في موضع الحال؛ التقدير: أيّ شيء لنا في ترك التوكل على الله.
{وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} أي الطريق الذي يوصل إلى رحمته، وينجي من سخطه ونقمته.
{وَلَنَصْبِرَنَّ} لام قسم؛ مجازه: والله لنصبرن: {على مَا آذَيْتُمُونَا} به، أي من الإهانة والضرب، والتكذيب والقتل، ثقة بالله أنه يكفينا ويثيبنا.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون}. اهـ.

.قال الخازن:

{قالت رسلهم}
يعني مجيبين لأممهم: {أفي الله شك} يعني وهل تشكون في الله وهو استفهام إنكار ونفي لما اعتقدوه: {فاطر السموات والأرض} يعني وهل تشكون في كونه خالق السموات والأرض وخالق جميع ما فيهما: {يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم} يعني ليغفر لكم ذنوبكم إذا آمنتم وصدقتم وحرف {من} صلة وقيل: إنها أصل ليست بصلة، وعلى هذا إنه يغفر لهم ما بينهم وبينه من الكفر والمعاصي دون مظالم العباد: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} يعني إلى حين انقضاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب: {قالوا} يعني الأمم مجيبين للرسل: {إن أنتم} يعني ما أنتم: {إلا بشر مثلنا} يعني في الصورة الظاهرة لستم ملائكة: {تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا} يعني ما تريدون بقولكم: هذا إلا صدنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها: {فأتونا بسلطان مبين} حجة بينة واضحة على صحة دعواكم: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم} يعني أن الكفار لما قالوا لرسلهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا قالت لهم رسلهم مجيبين لهم: هب أن الأمر كما قلتم ووصفتم فنحن بشر مثلكم لا ننكر ذلك: {ولكن الله يمن على من يشاء من عباده} يعني بالنبوة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف: {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} يعني وليس لنا من ما خصنا الله به من النبوة وشرفنا به من الرسالة أن نأتيكم بآية، وبرهان ومعجزة تدل على صدقنا إلا بإذن الله لنا في ذلك: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} يعني في دفع شرور أعدائهم عنهم: {وما لنا أن لا نتوكل على الله} يعني أن الأنبياء قالوا أيضًا قد عرفنا أنه لا يصيبنا شيء إلا بقضاء الله وقدره فنحن نثق به ونتوكل عليه في دفع شروركم عنا: {وقد هدانا سبلنا} يعني وقد عرفنا طريق النجاة، وبين لنا الرشد: {ولنصبرن} اللام لام القسم تقديره والله لنصبرن: {على ما آذيتمونا} يعني به من قول أو فعل: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون}.
فإن قلت: كيف كرر الأمر بالتوكل؟ وهل من فرق بين التوكلين؟ قلت: نعم التوكل الأول فيه إشارة إلى استحداث التوكل والتوكل الثاني فيه إشارة إلى السعي في التثبيت على ما استحدثوا من توكلهم وإبقائه وإدامته فحصل الفرق بين التوكلين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ}
وقدر مضاف فقيل: أفي إلاهية الله.
وقيل: أفي وحدانيته، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أنْ لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشئ العالم وموجده، فقال: فاطر السموات والأرض.
وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد.
وقرأ زيد بن علي: {فاطر} نصبًا على المدح، ولما ذكر أنه موجد العالم، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال: يدعوكم ليغفر لكم أي: يدعوكم إلى الإيمان كما قال: {إذ تدعون إلى الإيمان} أو يدعوكم لأجل المغفرة، نحو: دعوته لينصرني.
وقال الشاعر:
دعوت لما نابني مسورًا ** فلبى فلبى يدي مسور

و{من ذنوبكم} ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي: ليغفر لكم ذنوبكم.
وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب، ولا إذا جرت المعرفة، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم.
وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أنّ الإسلام يجب ما قبله، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتًا عنه، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم، لا بغفران ما يستأنف.
وقال الزمخشري ما معناه: إنّ الاستقراء في الكافرين أنْ يأتي من ذنوبكم، وفي المؤمنين ذنوبكم، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى.
ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك، إذ الكافر إذا آمن، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب.
وقال أبو عبد الله الرازي: أما قول صاحب الكشاف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر، فهو من باب الطامات، لأنّ هذا التبعيض إنْ حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإنْ لم يحصل كان هذا الكلام فاسدًا.
وقال: إلى أجل مسمى، إلى وقت قد بيناه، أو بينا مقداره إنْ آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى.